كان كل ليلة يتسمر أمام شاشة الحاسوب، تتفقده زوجته من حين لآخر، تحضر له كأسا من الشاي الساخن، أو أكلة خفيفة، تسأله إن كان يرغب في شيء قبل أن تذهب للنوم، فقد تجاوز الوقت منتصف الليل، فكان يسرح لها بكل حنان أن تذهب لترتاح، فلا يزال أمامه الكثير من العمل، الذي يجب أن ينهيه ليقدمه إلى رئيسه غدا.
قد تتساءلون أي عمل هذا الذي يتطلب منه السهر إلى ساعات متأخرة من الليل ؟
أتعلمون ما هو ...... ؟ مشاهدة الأفلام الخليعة.
أجل الأفلام الخليعة التي أصبح مدمنا عليها، كان يغطي سره على زوجته بحجة العمل، و هي المسكينة كانت مقتنعة أن زوجها العزيز يدفن نفسه بالعمل من أجلها و اجل ابنته الوحيدة .........ملاك.
كان لا ينام إلا سويعات قليلة، ليستفيق صباحا متكاسلا، محمر العينين، محني الظهر، كانت زوجته المخدوعة تسارع لتحضير له الإفطار، و لتوفير له كل الراحة اللازمة .... المسكين قضى نصف الليل في العمل، في نظرها طبعا.
و توالت الأيام و صار رشيد يتردد على أكبر مواقع الفسق و الرذيلة، ينتقل من موقع لموقع، ليشبع شهوته الحيوانية، فكان مع مرور الوقت يزداد تعطشه للمزيد .... و المزيد.
و في يوم من الأيام، و كما جرت العادة، بعد مأدبة العشاء، احتضن حاسوبه العزيز، و هو يتظاهر بالتذمر و الملل من العمل الذي لا ينتهي أبدا .
حظرت له زوجته، ساندويتش، و طبق من الفستق المملح، و بعض الفاكهة، حتى يتسلى و لا يشعر بالملل، ثم جلست على الأريكة المقابلة تنظر إليه مبتسمة، تمسك بمجلة نسائية تتسلى بها، و تؤنس وحدته، أما هو فلم يعجبه الوضع بتاتا، و أصبح ينظر إليها من أسفل أهداب عيونه، و اضطر إلى فتح ملف شغل قديم لا حاجة له به، و أخد يلعب بالفأرة ليوهمها أنه يعمل، أما هي، فكانت من لحظة لأخرى ترمقه بنظرات كلها حنان و شوق، مع ابتسامة لطيفة، دون أن تتفوه بكلمة، فهي لا تريد أن تشتت أفكاره، أو أن تلهيه عن عمله، كانت جالسة كنسمة خفيفة، تداعب المكان برقتها، أما بالنسبة إليه فقد كانت كحجر ثقيل على قلبه،
فكان كل خمس دقائق، يطلب منها أن تذهب لتنام، أما هي فكانت تبتسم في وجهه معلقة: لا أشعر بالنعاس حبيبي.
و لما نفذ صبره، خاطبها: و لكنك تشتتين أفكاري بتواجدك، أرجوك حبيبتي اذهبي للنوم.
- اعتبرني و كأني غير موجودة.
- و لكنك موجودة، كما أني لا أستطيع أن أعمل و أنت تجلسين أمامي، لا أستطيع إن أبعد نظري عن محاسنك أيتها الشقية.... هل فهمتي ؟
فابتسمت له، ثم قامت و طبعت عليه قبلة حارة، ترجمت كل معاني الحب الموجودة في العالم و انصرفت إلى غرفتها، و هكذا خدعها بكلامه المعسول، فطرد بذلك ملاكه الحارس، ليدعـوا الشياطين لمجلسه الخسيس...
و بسرعة و لهفة فتح النت و دخل على أكبر موقع للرذيلة و الفسق... و أمضى وقته الثمين في التنقل من مشهد لمشهد، من فيلم لفيلم .... و هكذا
و هو في قمة تركيزه، بكل كيانه و عقله و قلبه في شريط الفيلم الخليع، يتصبب عرقا، يلهث ككلب عطش، شاخص النظرات كتمثال من حجر.....، فاجأه صوت من خلف ظهره : كفى ..... اتق الله ......
ما هذا الصوت ؟ و التفت مرتعبا إلى مصدره ...... فوجد ابنته ملاك تقف شاخصة بنظرات دامعة و هي تنظر إليه .....
- كفى بابا ...... أرجوك
أحس بدوار فضيع كاد أن يغمى عليه، فاستدار بسرعة البرق ليوقف شريط الفيلم الذي كان لا يزال يعرض مشاهدا تلغي كل صفات البشر النبيلة.
- يا إلهي كيف خرجت من غرفتها، كيف لم انتبه، مع أني أجلس قبالة غرفتها و غرفة نومي تحسبا لأي ظرف طارئ حتى أستطيع التصرف في الوقت المناسب،
- أوقف الفيلم .. و هو يفكر في كذبة يبرر بها فعلته الشنيعة أمام ابنته الصغيرة، فالطفل كالورقة البيضاء، تستطيع أن تكتب فيها ما تشاء.
و حين التفت إليها مصطنعا ابتسامة عفوية، لم يجدها.
- يا إلهي .... أين هي، أين اختفت، كانت هنا منذ لحظات، ثم وقف يبحث عنها في أرجاء الغرفة، و كلماتها تتردد في عقله، " ...... كفى ..... إتق الله ......"، كيف يعقل أن يصدر هذا الكلام عن طفلة عمرها أربع سنوات؟
ثم توجه إلى غرفة نومها، وجد الباب مغلقا، زادت دهشته، كيف خرجت من غرفتها؟ و كيف عادت؟ دون أن انتبه.
فتح الباب فوجدها في سريرها، مستلقية على ظهرها، شعرها الأسود الحريري منسدلا على وسادتها، و اللون الوردي يغزو مساحة وجنتيها، اقترب منها بحذر شديد، و قلبه يكاد يهرب من بين قضبان أضلعه، و كأنه أمام شبح هارب من قصص العجائز الأسطورية، أحس برهبة عظيمة و نسي أنه يقترب من ابنته الوحيدة، فلذة كبده ..... ملاك.
و تصادمت عدة تساؤلات في عقله حول هذا المخلوق النائم هنا، ترى ....... إن كانت النائمة هنا إبنتي ملاك؟ فمن التي حدثتني منذ قليل؟ و إن كانت اللي حدثتني هي فعلا ابنتي؟ فمن هذه التي تنام هنا......؟
- أيعقل أن يكون كل الذي حدث، مجرد حلم يقظة بسبب كثرة السهر أمام الحاسوب؟
- أم هو صحوة ضمير مؤنب، جاء يذكرني بابنتي الوحيدة ؟
كل هذه التساؤلات اختلجت في صدره و كادت أن تلقي بقلبه خارجا، القلب الذي أماته بالركض خلف شهوة نتنة.
و هو يقترب منها بحذر، شدته ملامح وجهها ....... كان يبدو عليها الحزن الشديد، الحزن الذي يجعلك عاجزا حتى عن البكاء، و هو أبشع حزن قد يصيبك، راعه المنظر و انحدرت دمعة من عينه، مختصرة المسافة من مقلته مباشرة لتصطدم بأرضية الغرفة، و كأنها تفضل عناق الأرض على عناق خده العكر
و ناداها بصوت خفي : ملاك ...... ملاك .......ملاك
حينها تأكد أنها لا تتنفس .......
يا إلهي... ملاك استيقظي
فاختطفها من سريرها و ركض بها خارجا، كمجنون يصرخ: استيقظي ملاك، أرجوك ... استيقظي
ركض إلى الشارع حافي القدمين، إستوقف سيارة و توجه بها إلى المستشفى، دخل و هو يصرخ: دكتور... دكتور... أين الدكتور، إبنتي لا تتنفس، فسارع إليه الممرضون و الأطباء انتزعوها من بين ذراعيه بصعوبة و أخدوها بعيدا عنه إلى غرفة الطوارئ، و بقي هو في رواق المستشفي، لحقت به زوجته مذعورة لا تفهم ما يدور حولها، فلطالما كانت كذلك، ارتمت في أحضانه و هي ترتعش : ماذا جرى ؟ أين أبنتي؟ أين ملاك؟ ماذا حدث؟
أما هو فأخد يردد : لست أدري .... كانت تكلمني، كانت تنظر إلي، ثم رحلت، فتبعتها، كانت جميلة، نائمة، حزينة، مخيفة، لا تتنفس، و تلك الفتاة... من كانت؟، لست ادري ..... يا إلهي ملااااااااااااااااك، سامحي يا ابنتي.
فلم تفهم زوجته شيئا ... فقد بدا لها كمجنون فقد نصف عقله.
و بعد لحظات، خرج الدكتور، و كأنه يمشي خطوة للأمام و خطوتين للوراء، نظر إليهما نظرة زعزعت كيانهما.
- تكلم دكتور ما بها ابنتي ؟ أنا أمها طمئني عليها أرجوك
أما رشيد فبقي جامدا في مكانه يردد: لا تنطق بها، أرجوك دكتور.... لا تنطق بها
ثم نطق الدكتور بصوت مخنوق: آسف.... البقاء لله ....
ضحك رشيد : لا يعقل.... أكيد أخطأتم التشخيص دكتور، ملاك كانت تحدثني منذ دقائق فقط،
فرد عليه الدكتور: مستحيل.... مؤشرات أعضائها تشير إلى أن ابنتك قد توفيت منذ ساعتين على الأقل