لم يمنع برد موسكو ليلة السبت الماضي الماكينات الألمانية من العمل بأقصى كفاءة تختزنها ولم يعد بالفائدة على أصحاب الأرض كما فعل منذ ستة عقود خلت أيّام الحرب العالمية الثانية حين باتت آليات جيوش الألمان العسكرية خارج الخدمة بسبب تدني درجة الحرارة, فعادت ألمانيا بفوز ثمين, 1-0, حجزت به بطاقتها لكأس العالم التي ستقام في جنوب أفريقيا الصيف القادم, بعد ضمانها تصدرها للمجموعة الأوروبية الرابعة قبل جولة على ختام التصفيات, وأرسلت روسيا لخوض الملحق المحفوف بالألغام.
قدّم المنتخب الألماني أمس على إستاد لوجنيكي الشهير ذي العشب الصناعي, نموذجاً تكتيكياً رائعاً في مفهوم كرة القدم الحديثة, فكان لاعبوه مثالاً في الانضباط الكروي والالتزام التكتيكي الصرف الأمر الذي صعّب مهمة منافسه رغم الثمانين ألف صوت التي صدحت مؤازرة, ومعززة بوجود الرئيس الروسي دمتري ميدفيديف وبباني روسيا الحديثة رئيس مجلس الوزراء فلاديمير بوتين.
عرف المدرب يواخيم لوف أن رحلته لروسيا محفوفة بالمخاطر, فهو يواجه منتخباً ينمو باضطراد مستمر يلعب أمام الآلاف من مناصريه في ظل ظروف مناخية باردة معتاد عليها وأرضية ملعب صناعية غير منتشرة في ألمانيا, فأتت تحضيرات لوف, الذي غالباً ما انتقد على عدم وضوح إستراتيجيته, على قدر الحدث, إذ جهّز خططه على أرض مماثلة في ألمانيا كي يعتاد اللاعبون عليها.
اتضح من سير المباراة اعتماد الألمان على الهجمات المرتدة فلعبوا بتشكيلة 4-5-1, كانت سرعان ما تتحول للهجوم بسرعة فائقة مع تقدم أربعة أو خمسة لاعبين للعمق الروسي تبعاً لما يتطلبه البناء الهجومي يقودهم المتألّق مسيت أوزيل, وأمامه كلوزه, إلى جانب مواكبة خلفية من المدافعين, أقلقت الروس على مدار الدقائق التسعين خصوصاً أن لقاء الأمس كشف عن نضج وفعالية ألمانيتين افتقدتهما روسيا رغم أدائها الجيّد, وهذا ما صرّح به الهولندي غوس هيدينك, قائلاً إن ألمانيا سجلت من فرصة, فيما فشل لاعبوه في استثمار كمّ من الفرص.
في الشق الدفاعي أغلق الألمان بقيادة قلبي الدفاع العملاقيين, ميرتسيكر لاعب فيردر بريمن (1,98 متر) وهيكو ويسترمان لاعب شالكه (1,90 متر), المنافذ أمام الروس وضاقت المساحات أكثر مع تراجع خط الوسط, كخط دفاع ثان, فكان بالاك وسيمون رولفس لاعب باير ليفركوزن, صماما الأمان أمام توغلات الروس الذي يجيدون الاختراقات السريعة على طريقة "خذ وهات" من أي جهة كانت.
قرأ لوف مكامن قوّة منافسه, فمن تابع روسيا منذ تصفيات أمم أوروبا 2008, ونهائياتها وتصفيات كأس العالم 2010, وكذلك فريق زينيت الفائز بكأس الاتحاد الأوروبي 2008, أيقن نقاط قوّة الروس التي هي مزيج تكتيكي-مهاري-بدني, يعتمد على تناقل أرضي سريع للكرات, مع تغيير كثير للمراكز من دون كرة, واستثمار للمساحات, يستغله تقدم الظهيرين يوري زيركوف يسارا والكسندر انيوكوف يميناً من الخلف فيمسيان في قلب منطقة المنافس, أو لاعبا الوسط بيستروف وسيمشوف, معتمدين على سرعات فائقة تباغت الدفاع وتصل عمقه بسهولة, وأكثر من يعرف مرارة تلك الخطة, لاعبو هولندا في ربع نهائي أمم أوروبا 2008, حين فازت روسيا 3-1.
سيطر الروس أمس لكنهم عانوا وكدوا لفرض نهجم الكروي, فكانت لهم بعض الفرص من النوع الخطر جداً, معظمها أتت عبر النفاثة بيستروف, لاعب زينيت بطرسبرغ, الذي اخترق العمق الألماني مراراً دون أن يجد له رقيبه الشاب جيرومي بوتنغ (21 عاماً) حلاً سوى المخالفات التي دفع ثمنها الأخير في ظهوره الدولي الأول بطاقتين صفراوين, وبالتالي واحدة حمراء, كما كان لبيستروف ركلة جزاء واضحة في الدقيقة 86 إثر عرقلة داخل المنطقة من ميرتسيكر, علماً أن عرقلة أخرى على اندري أرشافين من مايكل بالاك في الدقيقة 81 كانت محط جدل مع الحكم السويسري الشهير ماسيمو بوساكا.
ولو امتلك بيستروف إمكانات فنية تهديفية, توازي طاقته البدنية والمعنوية الهائلتين, لكان على الأقل أدرك الروس التعادل, وهنا لربما كان اهتز المنتخب الألماني أو فقد بعضاً من التزامه "الخارق" الذي لم يشبه خطأ, مثلما حصل في مباراة الذهاب في برلين حين تقدمت ألمانيا بهدفين وأمسكت بالمباراة قبل أن يقلّص أرشافين الفارق ويستبيح بعدها الروس منطقة جزاء منافسهم وعارضتهم, دون الشباك.
أمر آخر, يُضاف إلى أمسية ألمانيا المثالية, وهو كان خارج المتوقع, تمثّل بأداء حارس باير ليفركوزن رينيه ادلر الذي كان على مستوى عالٍ لم يظهر به حارس ألماني, منذ تخلى الشهير المعتزل أوليفر كان عن تألقه, وانحدر مستواه, ليجد الاعتزال متربصاً له عام 2008.
خاف لوف من عدم قدرة ادلر على الإمساك بمباراة مصيرية, عبؤها نفسي أكثر من فني, وهو أي ادلر, قليل الخبرة, لم يخض سوى 6 مباريات دولية, لكنه قد يكون بات متمرساً بمنازلة الروس, وهو الذي افتتح دولياته مع رجال ألمانيا, في لقاء الذهاب من التصفيات أمام روسيا في برلين في تشرين الأوّل/أكتوبر 2008.
نجومية ادلر وظهوره الواثق, شكلا آخر حوائط الدفاع الألمانية, فحين نجح أرشافين ورفاقه في هدم الحصون الألمانية الثلاث, اصطدموا بادلر الذي أنقذ كرات "إعجازية أحياناً" مثل انفرادية بيستروف في الشوط الأول, وتصويبتي أرشافين وزميله سيمشوف في الشوط الثاني, فكان جداًراً برلينياً, إنما موحداً وليس مقسّماً, بين أبناء الجنس الآري.
وإذا كانت المدرسة الروسية وقبلها السوفييتية ذائعتي الصيت بقدرات بدنية متفوقة تتركز على عنصري التحمل والسرعة, فإن في المقابل ما رأيناه في ليلة السبت الباردة في موسكو, كشف أو ذكّر بما تمتلكه ألمانيا من جحافل هي أشبه بالجبال في الملعب, فقد تفوّق الجرمانيون على "سلاف" أوروبا الشرقية بقوّة بدنية وأحجام يندر أن تجدها في منتخبات أخرى, وهذا ما زاد من صعوبات تحرّك الروس, الذين وجدوا منتخباً نافسهم في "حقلهم" ألا وهو القدرات البدنية بل تفوّق عليهم في بعض النقاط, وهذا ما زاد من تميّز أداء الألمان الذي قارب "المثالية" في موسكو, خصوصاً أنّ الشق الفني والسلوكي والانضباطي والمهاري والتكتيكي, يعتبر من الثوابت في مدرسة, أثبتت السنون أنّها من بين الأفضل أبدا مهما تقلبت الأياّم.
نموذج كرويّ رائع أمتعنا به الألمان, وأسلوب لا وجود لنجم فيه, بل فريق واحد صلب, تكاد تخاله ملتحم من شدة سلاسة وتماسك خطوطه, تلك الميزة اعتدنا عليها من الألمان, الذي منذ أفول آخر نجومهم الفذة, يورغن كلينسمان عام 1996, وهم يحققون النتائج العالية رغم "عقم" النجوم لديهم إن قورن لاعبو اليوم بجيل غيرد مولر أو رودي فولر أو لوثار ماتيوس أو توماس هاسلر مثالاً لا حصراً, إذ وصلوا نهائي مونديال 2002 قبل أن يخسروا أمام البرازيل, ونالوا برونزية مونديال 2006, وفضية أمم أوروبا 2008. وها هي ألمانيا الآن بأفضل حالات منتخب "اللانجوم", فهل نراها تعانق الكأس المذهبة في جوهانسبرغ في 11 تموز/يوليو 2010؟